فصل: تفسير الآية رقم (24):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (24):

{يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24)}
أي في حياتي. فاللام بمعنى في.
وقيل: أي قدمت عملا صالحا لحياتي، أي لحياة لا موت فيها.
وقيل: حياة أهل النار ليست هنيئة، فكأنهم لا حياة لهم، فالمعنى: يا ليتني قدمت من الخير لنجاتي من النار، فأكون فيمن له حياة هنيئة.

.تفسير الآيات (25- 26):

{فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26)}
قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ} أي لا يعذب كعذاب الله أحد، ولا يوثق كوثاقه أحد. والكناية ترجع إلى الله تعالى. وهو قول ابن عباس والحسن. وقرأ الكسائي {لا يعذب} {ولا يوثق} بفتح الذال والثاء، أي لا يعذب أحد في الدنيا كعذاب الله الكافر يومئذ، ولا يوثق كما يوثق الكافر. والمراد إبليس، لان الدليل قام على أنه أشد الناس عذابا، لأجل أجرامه، فأطلق الكلام لأجل ما صحبه من التفسير.
وقيل: إنه أمية ابن خلف، حكاه الفراء. يعني أنه لا يعذب كعذاب هذا الكافر المعين أحد، ولا يوثق بالسلاسل والاغلال كوثاقه أحد، لتناهيه في كفره وعناده.
وقيل: أي لا يعذب مكانه أحد، فلا يؤخذ منه فداء. والعذاب بمعنى التعذيب، والوثاق بمعنى الايثاق. ومنه قول الشاعر:
وبعد عطائك المائة الرتاعا

وقيل: لا يعذب أحد ليس بكافر عذاب الكافر. واختار أبو عبيد وأبو حاتم فتح الذال والثاء. وتكون الهاء ضمير الكافر، لان ذلك معروف: أنه لا يعذب أحد كعذاب الله. وقد روى أبو قلابة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قرأ بفتح الذال والثاء. وروي أن أبا عمرو رجع إلى قراءة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال أبو علي: يجوز أن يكون الضمير للكافر على قراءة الجماعة، أي لا يعذب أحد أحدا مثل تعذيب هذا الكافر، فتكون الهاء للكافر. والمراد ب- أَحَدٌ الملائكة الذين يتولون تعذيب أهل النار.

.تفسير الآيات (27- 30):

{يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)}
قوله تعالى: {يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} لما ذكر حال من كانت همته الدنيا فاتهم الله في إغنائه، وإفقاره، ذكر حال من اطمأنت نفسه إلى الله تعالى. فسلم لأمره، واتكل عليه.
وقيل: هو من قول الملائكة لأولياء الله عز وجل. والنفس المطمئنة: الساكنة الموقنة، أيقنت أن الله ربها، فأخبتت لذلك، قاله مجاهد وغيره.
وقال ابن عباس: أي المطمئنة بثواب الله. وعنه المؤمنة.
وقال الحسن: المؤمنة الموقنة. وعن مجاهد أيضا: الراضية بقضاء الله، التي علمت أن ما أخطأها لم يكن ليصيبها، وأن ما أصابها لم يكن ليخطئها.
وقال مقاتل: الآمنة من عذاب الله.
وفي حرف أبي بن كعب يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة.
وقيل: التي عملت على يقين بما وعد الله في كتابه.
وقال ابن كيسان: المطمئنة هنا: المخلصة.
وقال ابن عطاء: العارفة التي لا تصبر عنه طرفة عين.
وقيل: المطمئنة بذكر الله تعالى بيانه {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} [الرعد: 28].
وقيل: المطمئنة بالايمان، المصدقة بالبعث والثواب.
وقال ابن زيد: المطمئنة لأنها بشرت بالجنة عند الموت، وعند البعث، ويوم الجمع.
وروى عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: يعني نفس حمزة. والصحيح أنها عامة في كل نفس مؤمن مخلص طائع. قال الحسن البصري: إن الله تعالى إذا أراد أن يقبض روح عبده المؤمن، اطمأنت النفس إلى الله تعالى، واطمأن الله إليها.
وقال عمرو بن العاص: إذا توفي المؤمن أرسل الله إليه ملكين، وأرسل معهما تحفة من الجنة، فيقولان لها: اخرجي أيتها النفس المطمئنة راضية مرضية، ومرضيا عنك، اخرجي إلى روح وريحان، ورب راض غير غضبان، فتخرج كأطيب ريح المسك وجد أحد من أنفه على ظهر الأرض. وذكر الحديث.
وقال سعيد بن زائد: قرأ رجل عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، فقال أبو بكر: ما أحسن هذا يا رسول الله! فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الملك سيقولها لك يا أبا بكر».
وقال سعيد بن جبير: مات ابن عباس بالطائف، فجاء طائر لم ير على خلقته طائر قط، فدخل نعشه، ثم لم ير خارجا منه، فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر- لا يدري من تلاها-: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً.
وروى الضحاك أنها نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه حين وقف بئر رومة.
وقيل: نزلت في بيب بن عدي الذي صلبه أهل مكة، وجعلوا وجهه إلى المدينة، فحول الله وجهه نحو القبلة. والله أعلم. معنى {إِلى رَبِّكِ} أي إلى صاحبك وجسدك، قاله ابن عباس وعكرمة وعطاء. واختاره الطبري، ودليله قراءة ابن عباس فادخلي في عبدي على التوحيد، فيأمر الله تعالى الأرواح غدا أن ترجع إلى الأجساد. وقرأ ابن مسعود {في جسد عبدي}.
وقال الحسن: ارجعي إلى ثواب ربك وكرامته.
وقال أبو صالح: المعنى: ارجعي إلى الله. وهذا عند الموت.
{فَادْخُلِي فِي عِبادِي} أي في أجساد عبادي، دليله قراءة ابن عباس وابن مسعود. قال ابن عباس: هذا يوم القيامة، وقاله الضحاك. والجمهور على أن الجنة هي دار الخلود التي هي مسكن الأبرار، ودار الصالحين والأخيار. ومعنى فِي عِبادِي أي في الصالحين من عبادي، كما قال: {لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} [العنكبوت: 9].
وقال الأخفش: فِي عِبادِي أي في حزبي، والمعنى واحد. أي انتظمي في سلكهم. {وَادْخُلِي جَنَّتِي} معهم.

.سورة البلد:

سورة البلد مكية باتفاق. وهي عشرون آية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

.تفسير الآية رقم (1):

{لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1)}
يجوز أن تكون لا زائدة، كما تقدم في {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ} [القيامة: 1]، قاله الأخفش. أي أقسم، لأنه قال: بِهذَا الْبَلَدِ وقد أقسم به في قوله: {وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين: 3] فكيف يجحد القسم به وقد أقسم به. قال الشاعر:
تذكرت ليلى فاعترتني صبابة ** وكاد صميم القلب لا يتقطع

أي يتقطع، ودخل حرف لا صلة، ومنه قوله تعالى: {ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] بدليل قوله تعالى في ص: {ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} [ص: 75]. وقرأ الحسن والأعمش وابن كثير لأقسم من غير ألف بعد اللام إثباتا. وأجاز الأخفش أيضا أن تكون بمعنى {ألا}.
وقيل: ليست بنفي القسم، وإنما هو كقول العرب: لا والله لا فعلت كذا، ولا والله ما كان كذا، ولا والله لأفعلن كذا.
وقيل: هي نفي صحيح، والمعنى: لا أقسم بهذا البلد إذا لم تكن فيه، بعد خروجك منه. حكاه مكي. ورواه ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: لا رد عليهم. وهذا اختيار ابن العربي، لأنه قال: وأما من قال إنها رد، فهو قول ليس له رد، لأنه يصح به المعنى، ويتمكن اللفظ والمراد. فهو رد لكلام من أنكر البعث ثم ابتدأ القسم.
وقال القشيري: قوله لا رد لما توهم الإنسان المذكور في هذه السورة، المغرور بالدنيا. أي ليس الامر كما يحسبه، من أنه لن يقدر عليه أحد، ثم ابتدأ القسم. والْبَلَدِ: هي مكة، أجمعوا عليه. أي أقسم بالبلد الحرام الذي أنت فيه، لكرامتك علي وحبي لك.
وقال الواسطي أي نحلف لك بهذا البلد الذي شرفته بمكانك فيه حيا، وبركتك ميتا، يعني المدينة. والأول أصح، لان السورة نزلت بمكة باتفاق.

.تفسير الآية رقم (2):

{وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2)}
يعني في المستقبل، مثل قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}. ومثله واسع في كلام العرب. تقول لمن تعده الإكرام والحباء: أنت مكرم محبو. وهو في كلام الله واسع، لان الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة، وكفاك دليلا قاطعا على أنه للاستقبال، وأن تفسيره بالحال محال: أن السورة باتفاق مكية قبل الفتح. فروى منصور عن مجاهد: وَأَنْتَ حِلٌّ قال: ما صنعت فيه من شيء فأنت في حل. وكذا قال ابن عباس: أحل له يوم دخل مكة أن يقتل من شاء، فقتل ابن خطل ومقيس بن صبابة وغيرهما. ولم يحل لاحد من الناس أن يقتل بها أحدا بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وروى السدي قال: أنت في حل ممن قاتلك أن تقتله.
وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: أحلت له ساعة من نهار، ثم أطبقت وحرمت إلى يوم القيامة، وذلك يوم فتح مكة. وثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة، فلم تحل لاحد قبلي، ولا تحل لاحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار» الحديث. وقد تقدم في سورة المائدة ابن زيد: لم يكن بها أحد حلالا غير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقيل: وأنت مقيم فيه وهو محلك.
وقيل: وأنت فيه محسن، وأنا عنك فيه راض. وذكر أهل اللغة أنه يقال: رجل حل وحلال ومحل، ورجل حرام ومحل، ورجل حرام ومحرم.
وقال قتادة: أنت حل به: لست بآثم.
وقيل: هو ثناء على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي إنك غير مرتكب في هذا البلد ما يحرم عليك ارتكابه، معرفة منك بحق هذا البيت، لا كالمشركين الذين يرتكبون الكفر بالله فيه. أي أقسم بهذا البيت المعظم الذي قد عرفت حرمته، فأنت مقيم فيه معظم له، غير مرتكب فيه ما يحرم عليك.
وقال شرحبيل بن سعد: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ أي حلال، أي هم يحرمون مكة أن يقتلوا بها صيدا أو يعضدوا بها شجرة، ثم هم مع هذا يستحلون إخراجك وقتلك.

.تفسير الآية رقم (3):

{وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3)}
قال مجاهد وقتادة والضحاك والحسن وأبو صالح: وَوالِدٍ آدم: عليه السلام. وَما وَلَدَ أي وما نسل من ولده. أقسم بهم لأنهم أعجب ما خلق الله تعالى على وجه الأرض، لما فيهم من التبيان والنطق والتدبير، وفيهم الأنبياء والدعاة إلى الله تعالى.
وقيل: هو إقسام بآدم والصالحين من ذريته، وأما غير الصالحين فكأنهم بهائم.
وقيل: الوالد إبراهيم. وَما وَلَدَ: ذريته، قاله أبو عمران الجوني. ثم يحتمل أنه يريد جميع ذريته. ويحتمل أنه يريد المسلمين من ذريته. قال الفراء: وصلحت ما للناس، كقوله: {ما طابَ لَكُمْ} [النساء: 3] وكقوله: {وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى} [الليل: 3] وهو الخالق للذكر والأنثى، وقيل: ما مع ما بعدها في موضع المصدر، أي ووالد وولادته، كقوله تعالى: {وَالسَّماءِ وَما بَناها}.
وقال عكرمة وسعيد بن جبير: وَوالِدٍ يعني الذي يولد له، وَما وَلَدَ يعني العاقر الذي لا يولد له، وقاله ابن عباس. وما على هذا نفي. وهو بعيد، ولا يصح إلا بإضمار الموصول، أي ووالد والذي ما ولد، وذلك لا يجوز عند البصريين.
وقيل: هو عموم في كل والد وكل مولود، قاله عطية العوفي. وروي معناه عن ابن عباس أيضا. وهو اختبار الطبري. قال الماوردي: ويحتمل أن الوالد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لتقدم ذكره، وما ولد أمته: لقوله عليه السلام: «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم». فأقسم به وبأمته بعد أن أقسم ببلده، مبالغة في تشريفه عليه السلام.